فصل: سئل عن رجل باع ملكًا وعقارًا ثم خرج مستحقًا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجل باع ملكًا وعقارًا، ثم خرج مستحقًا، فهل يحاسب المشتري بالثمن من أجرة المبيع، إذا كان له أجرة‏؟‏ وهل يتوقف استحقاق / الأجرة على انتفاع المشتري بالبيع‏؟‏ أم لا‏؟‏ وهل يرجع المشتري على البائع بما يجب عليه في الشرع من الأجرة للمبيع مدة مقامه في يده، أو بالثمن الذي دفعه‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا كان المشتري عالما بالغصب، فهو ظالم ضامن للمنفعة، سواء انتفع بها أو لم ينتفع، وإن لم يعلم فقرار الضمان على البائع الظالم، وإذا انتزع المبيع من يد المشتري، فله أن يطالب بالثمن الذي قبضه، وإن أخذ منه الأجرة وهو مغرور رجع بها على البائع الغار‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل عمن يقول‏:‏ إن ‏[‏السيميا‏]‏ و ‏[‏الكيمياء‏]‏ علمان من علوم الأنبياء والأولياء‏.‏ ويروي بعضهم في الكيمياء ـ وهو الفضة الخدماء أو المخدمة ـ من أسفاها أكل الحلال ونحو ذلك‏؟‏

فأجاب‏:‏

وأما من قال‏:‏ إن ‏[‏السيميا والكيمياء‏]‏ من علوم الأنبياء والأولياء فكاذب مفتر، لم يعرف عن نبي من الأنبياء أنه تكلم لا في هذا، ولا في هذا، ولا عن ولي مقبول عند الأمة‏.‏

أما ‏[‏السيميا‏]‏ فإنها من السحر، ‏{‏وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 69‏]‏ ‏.‏/ ولا ريب أن السحرة قد يشتبهون بالأنبياء والأولياء، ويأتون ما يظن أن يضاهي ما تأتي به الأنبياء، كما أتي سحرة فرعون بما يضاهون به معجزة موسى، ‏{‏فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏سَاجِدِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 45، 46‏]‏

وأما ‏[‏الكيمياء‏]‏ ‏:‏ فهو المشبه بالذهب والفضة المخلوقين‏.‏ والكيمياء لا تختص بهذين، بل تصنع كيمياء الجواهر‏.‏ كاللؤلؤ والزبرجد‏.‏ وكيمياء المشمومات‏:‏ كالمسك والعنبر والورد، وكيمياء المطعومات‏.‏ وهي باطلة طبعًا، محرمة شرعًا، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من غشنا فليس منا‏)‏‏.‏

و ‏[‏الكيمياء‏]‏ من الغش؛ فإن الله لم يخلق شيئًا إلا بقدر، والخلق لا يصنعون مثل ما خلق الله تعالى، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 16‏]‏ ‏.‏ وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى‏:‏ ‏(‏ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا شعيرة‏)‏‏.‏

والفلاسفة يقولون‏:‏ إن الصناعة لا تعمل عمل الطبيعة‏:‏ يعني أن المصنوع من الذهب والفضة وغيرهما لا يكون مثل المطبوع الذي خلق بالقوة الطبيعية السارية في الأجسام؛ ولهذا لا يوجد من المخلوقات ما صنع الخلق مثله، وما يصنعه الخلق لم يخلق لهم مثله، فهم يطحنـون / الطعام، وينسجون الثياب، ويبنون البيوت، ولم يخلق لهم مثل ذلك‏.‏

وكذلك الزجاج يصنعونه من الرمل والحصي، ولم يخلق مثله‏.‏ وهذا مما احتج به الكيماوية على صحة الكيمياء، وهي حجة باطلة لما ذكر، فإنه لو خلق زجاج، وصنع زجاج مثله، لكان في هذا حجة، وليس الأمر كذلك‏.‏

وجماهير العقلاء من الأولين والآخرين، الذين تكلموا بعلم في هذا الباب، يعلمون أن الكيمياء مشبه، وأن الذهب المخلوق من المعادن ما يمكن أن يصنع مثله، بل ولا يصنع، وكل ينكشف قريبًا، أو بعيدًا، ولكن منه ما هو شديد الشبه، ومنه ما هو أبعد شبهًا منه‏.‏ وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع‏.‏

 وسئل عن رجل اشتري عبدًا سليمًا من العيب، ثم باعه كذلك، فسرق العبد من المشتري الثاني مبلغًا وأبق، فهل يرجع بالثمن على البائع الأول‏؟‏ أو الثاني‏؟‏ أو بالأرش، أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

للمشتري أن يطالب بالأرش بلا نزاع بين العلماء، ومعني / ذلك‏:‏ أن يقوم العبد ولا عيب فيه، ويقوم وبه هذان العيبان، فما نقص من القيمة نقص من الثمن بحسابه، فإذا كانت قيمته سليمًا أربعمائة، وقيمته معيبًا مائتان، حط عنه نصف الثمن‏.‏

وهل يرجع بالثمن كله على السيد الذي دلس العيب‏؟‏ فهذا فيه نزاع مشهور بين العلماء‏.‏ فمذهب مالك وأحمد في أنص الروايتين عنه أنه يرجع عليه بالثمن كله‏.‏ وقد ذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد في القول الآخر يرجع عليه بذلك‏.‏

 وسئل عن رجل اشترى جارية فبانت عاشقة في سيدها الذي باعها، وباعها الثاني لثالث، فهل للثالث أن يردها على الثاني‏؟‏ وهل يردها الثاني على الأول‏؟‏ أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

نعم، هذا عيب ينقص القيمة في العادة نقصًا بينًا، فإذا ثبت ولم يعلم به المشتري كان له أن يردها على بائعه المشتري الثاني، وإذا كان المشتري الثاني لم يعلم العيب فله أن يردها على البائع الأول‏.‏ والله أعلم‏.‏

/

 وسئل عن رجل اشتري جارية صحيحة سالمة فهربت من يوم ابتاعها من غير ضرب، ولا إجحاف، فهل للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن قبل حضور الجارية، ووجودها، أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، إن كانت الجارية معروفة بالإباق قبل ذلك، وكتم البائع هذا العيب، وأبقت عند المشتري، فللمشتري أن يطالب البائع بالثمن في أصح قولي العلماء، كما هو مذهب مالك وأحمد في المنصوص عنه من القولين‏.‏ وفي القول الآخر يطالب بالأرش‏.‏

وإن لم تكن أبقت قبل ذلك، ولكن أبقت بسبب ما فعل بها المشتري، فلا شيء على البائع‏.‏ وإذا حدث به عيب إباق أو غيره بعد القبض، فلا رد له عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد‏.‏ وأما مالك فيقول‏:‏ له الرد بذلك إلى تمام ثلاثة أيام، وما بعد ذلك إلى سنة وله الرد بالجنون والجذام والبرص‏.‏ والله أعلم‏.‏

/

 وسئل عن دابة لم يعلم أحد المتبايعين بها عيبًا، فمكثت عنده مقدار شهر، ثم وجد بها عيبًا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، إذا ظهر بها عيب قديم قبل البيع، ولم يكن علم به، فله أن يردها بذلك العيب؛ ما لم يظهر منه ما يدل على الرضا به‏.‏

 وسئل عن رجل باع قمحًا فبذره فتلف، فطلب المشتري من البائع خراج الأرض، فهل يجب على البائع ذلك‏؟‏ وهل للمشتري أن يطالبه بذلك‏؟‏ وإذا ادعي المشتري أن العيب كان من البائع‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا باعه وسلم اليه المبيع، ثم تلف بعد ذلك عند المشتري، أو بذره المشتري فتلف، فلا ضمان على البائع، بل يستحق جميع الثمن إلا أن يكون به عيب، أو تدليس، ونحو ذلك‏.‏

/وإن ادعي المشتري أن تلفه بسبب عيب كان فيه، وكان ذلك القمح قد اشتري منه غير هذا المشتري، وشهدوا أنه سليم من العيب، لم يقبل قول المشتري، وإن لم يكن للبائع بينة، فالقول قوله مع يمينه، إذا لم يقم المشتري بينة‏.‏

وأيضًا، فإذا قال أهل الخبرة‏:‏ إن المعيب لا ينبت النبات المعتاد، وهذا قد نبت النبات المعتاد، ثم هاف، كان حجة للبائع‏.‏

 وسئل عن رجل باع زوجته دارًا بيع أمانة بأربعمائة درهم، وقد استوفت الدراهم من الأجرة، فهل يجوز لها أخذ شيء آخر، وقد أخذت الأربعمائة، فهل يحرم عليها‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، وحده، المقصود بهذا وأمثاله أن يعطيه المال، ويستغل العقار عن منفعة المال، فما دام المال في ذمة الآخذ فإنه يستغل العقار، وإذا رد عليه المال أخذ العقار، وهذا على هذا الوجه لا يجوز باتفاق المسلمين‏.‏ وإن قصدا ذلك وأظهرا صورة بيع لم يجز على أصح قولي العلماء أيضًا‏.‏

ومن صحح ذلك فلابد أن يكون بيعه شرعيا، فإذا شرط أنه / إذا جاء بالثمن أعاد اليه العقار، كان هذا بيعًا باطلًا‏.‏ والشرط المتقدم على العقد كالمقارن له في أصح قولي العلماء‏.‏

وحينئذ، فما حصل للمرأة من الأجرة بعد أن علمت التحريم تحسبه من رأس المال، وما قبضته قبل ذلك‏:‏ فهو على الخلاف المذكور، وإن اصطلحا على ذلك فهو أحسن‏.‏ وما قبضته بعقد مختلف تعتقد صحته لم يجب عليها رده في أصح القولين‏.‏

 وسئل عن رجل طلب من إنسان أن يقرضه دراهم، وللرجل كرم، فامتنع إلا أن يبيعه الكرم بمائـة درهم، وأنه إذا جاء بالدراهم أعاد اليه الكرم، فباعه الكرم بهذا الشرط، ولم يذكر الشرط في العقد، ثم بعد العقد قال المشتري لجماعة شهود‏:‏ اشهدوا على أنه متي جاء هذا بدراهمي أعدت اليه كرمه‏:‏ فهل يكون هذا البيع صحيحًا، أم لا‏؟‏ وهل يجب على المشتري القيام بما شرطه على نفسه في إعادة الكرم ‏؟‏ وإذا مكر المشتري بالبائع، هل يجوز له ذلك‏؟‏

فأجاب‏:‏

ليس هذا بيعًا لازمًا، بل عليه أن يرد عليه كرمه إذا أعطاه دراهمه، ولا يحل له أن يمكر به‏.‏

/

 وسئل عن امرأة اشترت خرقة تخيطها، ثم بعد ذلك وجدتها خامية وفيها فزور، فهل تلزم التاجر إن ردتها اليه‏؟‏

فأجاب‏:‏

لها أن تطالبه بأرش العيب القديم، وإذا كان قد نقص بما أحدثته فيه من العيب كان لها الرد مع أرش العيب الحادث في أصح قولي العلماء‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل عن رجل باع ملكًا لابنة تحت حجره بألف وثمانين ـ بيع أمانة ـ وهو يساوي أربعة آلاف درهم، وشهدت الشهود، وذكروا في المكتوب أن ابنة البائع أذنت في البيع، ولم يكن الشهود حضروها، ولا لها جلية عندهم، فهل يصح هذا البيع‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، بيع الأمانة بيع باطل، والواجب رد العوض، وبيع الأب مثل هذا الغبن العظيم لا يجوز، والمحجور عليها لا يصح / إذنها والإشهاد عليها بالإذن في مثل ذلك، بل إذا عرف ذلك فسخ البيع بكل حال‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله‏:‏

هل ذكر أحد من العلماء أن المشتري الأول إذا لم يجز له التصرف فيها قبل القبض فتلفت يكون ضامنًا لها‏؟‏ أو أن جواز التصرف والضمان متلازمان طردًا وعكسًا‏؟‏ فالنزاع في ذلك مشهور‏؟‏

فأجاب‏:‏

القولان في مذهب أحمد، وهو طريقة القاضي وأصحابه‏.‏

والمتأخرون من أصحاب أحمد مع أبي حنيفة والشافعية يقولون بتلازم التصرف والضمان، فعندهم أن ما دخل في ضمان المشتري جاز تصرفه فيه، وما لم يدخل في ضمانه لم يجز تصرفه فيه؛ ولهذا طرد الشافعي ذلك في بيع الثمار على الشجر، فلم يقل بوضع الجوائح؛ بناء على أن المشتري إذا قبضها، وجاز تصرفه فيها، صار ضمانها عليه‏.‏

والقول الثاني ـ في مذهب أحمد الذي ذكره الخرقي، وغيره من المتقدمين، وعليه تدل أصول أحمد‏:‏ أن الضمان والتصرف لا يتلازمان؛ ولهذا كان ظاهر مذهب أحمد‏:‏ أن الثمار إذا تلفت قبل تمكن المشتري / من جذاذها‏.‏ كانت من ضمان البائع، مع أن ظاهر مذهبه أنه يجوز للمشتري التصرف فيها بالبيع وغيره، فجوز تصرفه فيها مع كون ضمانها على البائع‏.‏ وقد ثبت بالسنة أن الثمار من ضمان البائع، كما في صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من ثمنها شيئًا، بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق‏؟‏‏!‏‏)‏ ‏.‏

ولكن الرواية الأخري عنه في منع التصرف في هذه الثمار يوافق الطريقة الأولى‏.‏

ومن الحجة لهذه الطريقة‏:‏ أن منافع الإجارة مضمونة على المؤجر قبل الاستيفاء، بمعني أنها إن تلفت بآفة سماوية كموت الدابة، وتعطلت المنافع كانت من ضمان المؤجر؛ لأنها تلفت قبل التمكن من استيفائها، مع أنه يجوز للمستأجر التصرف فيها حتى بالبيع في ظاهر المذهب، وإن كان عنه رواية أخرى لا يؤجرها بأكثر من الأجرة، إذا لم يحدث فيها زيادة؛ لئلا يربح فيما لم يضمن، وهي مذهب أبي حنيفة‏.‏ وأبو حنيفة عنده أن المنافع لا تملك بالعقد، وإنما تملك بالاستيفاء شيئًا فشيئًا‏.‏

وأحمد في المشهور عنه هو وغيره يجوزون إجارتها بأكثر من الأجرة، ويقولون‏:‏ هذا ليس ربحًا لم يضمن؛ لأن هذه المنافع مضمونة على/ المشتري، بمعني أنه لو تركها مع القدرة على استيفائها فلم يستوفها كانت من ضمانه، وإنما تكون مضمونة على البائع إذا تلفت قبل التمكن من استيفائها؛ ولهذا كان ظاهر مذهب أحمد ـ في ‏[‏باب الضمان‏]‏ ضمان العقد ـ الفرق بين ما يتمكن من قبضه، وما لم يتمكن، ليس هو الفرق بين المقبوض وغيره‏.‏ ومن ذلك أن الخرقي وغيره يقولون‏:‏ إن الصُّبْرَة المتعينة المبيعة جزافًا تدخل في ضمان المشتري بالعقد، ولا يجوزون للمشتري بيعها حتى ينقلها، لحديث ابن عمر، وابن عمر روي الحكمين جميعًا‏.‏ قال من السنة‏:‏ أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعًا فهو من ملك المبتاع، وقال ما رواه البخاري عنه‏:‏ ‏(‏كنا نبتاع الطعام جزافًا، فنهينا أن نبيعه في مكانه حتى ننقله إلى رحالنا‏)‏، فقد جاز التصرف حيث يكون الضمان على البائع، كما في الثمار، ومنع التصرف حيث يكون الضمان على المشتري كالصبرة من الطعام، فثبت عدم التلازم بينهما‏.‏

ومن حجة هذا القول‏:‏ أنه ليس كل ما دخل في ضمان المشتري يجوز تصرفه فيه، بدليل المقبوض قبضًا فاسدًا، والمقبوض في قبض فاسد‏.‏

أما الأول فلو اشتري قفيزا من صبرة، أو رطلا من زُبرة، ونحو ذلك مما يشترط في إقباضه الكيل أو الوزن، فقبض الصبرة كلها، أو الزبرة كلها، فإن هذا قبض فاسد، لا يبيح له التصرف إلا بتميز ملكه/ عن ملك البائع؛ ومع هذا فلو تلفت تحت يده كانت مضمونة‏.‏

وأيضا، فليس المشتري ممنوعا من جميع التصرفات، بل السنة إنما جاءت في البيع خاصة، ولو أعتق العبد المبيع قبل القبض فقد صح إجماعا‏.‏ وقد تنازع الناس في الهبة وغيرها‏.‏ وقد تنازع الناس في غلة الطعام المبيع قبل النهي عن قبضه، فإنه هو الذي ثبت في النصوص، واتفق عليه العلماء‏.‏ وكذلك اختلفوا في تفريع هذا الأصل‏.‏

وأصول الشريعة توافق هذه الطريقة، فليس كل ما كان مضمونًا على شخص كان له التصرف فيه؛ كالمغصوب، والعارية‏.‏ وليس كل ما جاز التصرف فيه كان مضمونا على المتصرف؛ كالمالك‏:‏ له أن يتصرف في المغصوب، والمعار، فيبيع المغصوب من غاصبه، وممن يقدر على تخليصه منه، وإن كان مضمونًا على الغاصب، كما أن الضمان بالخراج، فإنما هو فيما اتفق ملكا ويدًا‏.‏ وأما إذا كان الملك لشخص، واليد لآخر؛ فقد يكون الخراج للمالك، والضمان على القابض‏.‏

وأيضا، فبيع الدين ممن هو عليه جائز في ظاهر مذهب أحمد والشافعي، وكذلك أبوحنيفة‏.‏ وعند مالك يجوز بيعه ممن ليس هو عليه، وهو رواية عن أحمد؛ مع أن الدين ليس مضمونًا على المالك‏.‏

وأيضا، فالبائع إذا مكن المشتري من القبض، فقد قضي ما عليه؛ /وإنما المشتري هو المفرط بترك القبض، فيكون الضمان عليه، بخلاف ما إذا لم يمكنه من القبض بألا يوفيه التوفية المستحقة، فلا يكيله ولا يزنه ولا يعده، فإنه هنا بمنزلة ما لم يوفه إياه من الدين‏.‏ وإذا لم يفعل البائع ما يجب عليه من التوفية، كان هو المفرط،فكان الضمان عليه، إذ التفريط يناسب الضمان‏.‏

وأما حل التصرف وحرمته فله أسباب أخر‏:‏

فقد يكون السبب التمكن من التسليم حتى لا يشابه بيع الغرر‏.‏ وإذا لم ينقله من مكانه، فقد ينكر البائع البيع، ويفضي إلى النزاع‏.‏وقد لا يمكنه البائع من التسليم، كما اشترط في الرهن‏:‏القبض؛ لأن مقصوده استيفاء الحق من المرهون عند تعذر استيفاء الحق من الراهن‏.‏ وهذا إنما يتم بأن يكون قابضًا للرهن، بخلاف ما إذا كان بيد الراهن، فإنه يحول بينهما‏.‏

وقد يكون سبب ذلك أن المقصود بالعقود هو التقابض، وبالقبض يتم العقد، ويحصل مقصوده؛ ولهذا إذا أسلم الكفار وتحاكموا الينا وقد تعاقدوا عقودا يجوزونها وتقابضوها، لم نفسخها؛ وإن كانت محرمة في دين المسلمين، وإن كان قبل التقابض نقضناها؛ لئلا يفضي إلى الإذن بعد الإسلام في قبض محرم، فالبيع قبل قبضه لم يتم ملك المشتري عليه،/ بل هو يتعرض للآفات شرعًا وكونًا، فكان بيعها قبل القبض من جنس بيع الغرر؛ ولهذا نهي عن بيع المغانم قبل القبض؛ ولهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده؛ لعدم تمكنه من القبض الواجب عليه بالعقد‏.‏ وإن كان من الناس من يجعل الحديث متناولا للدين والعين، ويجعل التسليم مستثني منه‏.‏ ومنهم من يخصه بالعين، ويفسره ببيع عين لم يملكها، ويجعل معني ‏"‏ما ليس عندك‏"‏‏:‏ ما ليس في ملكك‏.‏ ومنهم من يحمله على الملك واليد جميعا، أو يشترط في المبيع أن يكون مملوكا مقبوضا، فلا يجوز بيع المملوك الذي لا يتمكن من تسليمه، وهو من بيع الغرر‏:‏ كالعبد الآبق، والفرس الشارد‏.‏

وهذا حجة من منع بيع الدين ممن ليس عليه‏.‏ قال‏:‏ لأنه غرر ليس بمقبوض‏.‏ ومن جوزه قال‏:‏ بيعه كالحوالة عليه، وكبيع المودع والمعار، فإنه مقبوض حكمًا؛ ولهذا جوزنا بيع الثمار‏.‏ وظاهر مذهب أحمد أنه‏:‏ إذا اشتري ثمرة بادية الصلاح، وقبض ثمنها، فإنها تكون من ضمان البائع؛ لأن عليه القبض إلى كمال الجذاذ، والمشتري لم يتمكن من جذاذها، ولكن جاز تمكنه منها إذا خلي بينه وبينها، بجعل التصرف، وقبضها التخلية، وجعل في الضمان قبضها التمكن من الانتفاع الذي هو المقصود بالعقد‏.‏ ولغموض مأخذ هذه المسائل كثر تنازع الفقهاء فيها، ولم يطرد إلى التوهم فيها قياس كما تراه‏.‏

/ وكثير منهم لا يلحظ فيها معني، بل يتمسك فيها بظاهر النصوص، وكل منهما قد يتناقض فيها، لكن قد جعل على حمل المذاهب فيها‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل اشتري صُبْرَة مجازفة، ثم تلفت على ملك المشتري قبل قبضها، ثم باعها قبل قبضها من غير أن يعلم تلفها‏.‏

فإذا قلنا‏:‏ إن المشتري الأول لم يجز له بيعها قبل قبضها‏.‏ فتلفت، فهل هي من ماله‏؟‏ أو من مال البائع الأول‏؟‏ وهل ذكر أحد من العلماء‏:‏ أن المشتري الأول إذا لم يجز له التصرف فيها قبل القبض فتلفت، يكون ضامنا لها، أو أن جواز التصرف والضمان متلازمان طردا وعكسًا‏؟‏‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، أما في هذه الصورة، فالبيع باطل بالاتفاق، إذا تلف المبيع وقت العقد، سواء باعها بالصفة، أو بغير الصفة، أو باعها برؤية سابقة على العقد، بل في مثل هذه الصورة لو تلفت بعد العقد، وقبل وجودها على الصفة، أو الرؤية الأولي، لا يفسخ البيع‏.‏ فأما إذا تبين أنها كانت تالفة حين العقد، فالبيع باطل بلا ريب‏.‏

وأما ضمانها، فظاهر مذهب مالك وأحمد‏:‏ أن التلف من ضمان / المشتري؛ لما احتج به من حديث الأوزاعي عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا، فهو من ضمان المشتري‏)‏ إذ ظاهر مذهب أحمد أن ما كان متعينًا بالعقد لا يحتاج إلى توفية بكيل أو وزن ونحوهما، بحيث يكون المشتري قد تمكن من قبضه، فهو من ضمانه، قبضه أو لم يقبضه‏.‏

وأما مذهب أبي حنيفة والشافعي‏:‏ فإنها من ضمان البائع، وهي الرواية الأخري عن أحمد، واختارها أبو محمد، لكن الصواب في ذلك متنوع‏.‏ فمذهب أبي حنيفة‏:‏ لا يدخل المبيع كله في ضمان المشتري إلا بالقبض، إلا العقار‏.‏ وعند الشافعي‏:‏ العقار وغيره سواء، وهو رواية عن أحمد‏.‏

وعن أحمد رواية بالفرق بين المكيل والموزون وغيرهما‏.‏ ورواية بالفرق بين الطعام وغيره‏.‏ ورواية بالفرق بين المطعوم‏:‏ المكيل الموزون وغيره‏.‏ وهذا في القبض عنه، كالروايات في الربا‏.‏

/وقال ـ رَحِمَهُ الله‏:‏

 فصل

في المقبوض بعقد فاسد

أصله‏:‏ أن العقد الصحيح يوجب على كل من المتعاقدين ما اقتضاه العقد، مثل ما يوجب التقابض، في البيع، والإجارة، والنكاح، ونحو ذلك من المعاوضات اللازمة، فإن لزومها يقتضي وجوب الوفاء بها وتحريم نقضها‏.‏

وأما ‏[‏العقود الجائزة‏]‏ من الوكالات بأنواعها، والمشاركات بأصنافها، فإنها لا توجب الوفاء مطلقا؛ إذ العقد ليس بلازم يجب الوفاء به، بل هو جائز مباح، وصاحبه مخير بين إمضائه وفسخه، وإذا فسخه كان نقضًا له، لكن ما دام العقد موجودا فعليه الوفاء بموجبه من حفظ المال، فإنه عقد أمانة‏.‏

/ وأما تحريم العدوان ـ كالخيانة ـ فذاك واجب بالشرع لا بالعقل، إذ يحرم عليه العدوان في مال من ائتمنه، وغيره، لكن العقد أوجب ذلك أيضا وزاده توكيدًا‏.‏

وأما وجوب التصرف عليه، بحيث يكون العامل في المضاربة، والمزارعة، والمساقاة، إذا ترك التصرف الذي اقتضاه العقد مفرطا، فهذا هو الظاهر؛ فإن العقد وإن كان جائزًا، فما دام موجودًا فله موجبان‏:‏ الحفظ بمنزلة الوديعة، والتصرف الذي اقتضاه العقد‏.‏ وهذا قياس مذهبنا؛ لأنا نوجب على أحد الشريكين من المعاوضة بالبيع والعمارة ما يحتاج اليه الآخر في العرف؛ مثل عمارة ما استهدم هذا في شركة الأملاك، فكذلك في شركة العقود؛ فإن مقصودها هو التصرف‏.‏ فترك التصرف في المضاربة والمساقاة والمزارعة قد يكون أعظم ضررًا من ترك عمارة المكان المستهدم في شركة الأملاك‏.‏

ومن ترك بيع العين والمنفعة المشتركة؛ لأنه هناك يمكن الشريك أن يبيع نصيبه، وهنا غره وضيع عليه منفعة ماله، فإذا كان العقد فاسدًا لم يثبت جميع مقتضاه من وجوب التقابض والتصرف، وحل التصرف والانتفاع ونحو ذلك، فإذا اتصل به القبض فهو قبض مأذون فيه بعقد، فليس مثل قبض الغاصب الذي هو بغير إذن؛ ولهذا قال الفقهاء‏:‏ ما ضمن بالقبض في العقد الصحيح ضمن بالقبض في العقد الفاسد؛ كالمبيع والمؤجر‏.‏ وما لم يضمن بالقبض في العقد الصحيح لا يضمن بالقبض في العقد الفاسد، كالأمانات من المضاربة والشركة ونحوها؛ لوجود الإذن؛ ولهذا تنازع العلماء في حصول الملك بالقبض فيه، وفيما يستحقه من / العوض، هل هو المسمي، أو عوض المثل، أو نحو ذلك‏.‏ وذلك أن الفرق بينهما من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن ذلك قبض بغير إذن المالك، وهذا قبض بإذن المالك‏.‏

الثاني‏:‏ أن هذا قبض اقتضاه عقد، وإن كان فيه فساد، وذاك قبض لم يقتضه عقد بحال؛ ولهذا نوجب في ظاهر المذهب المسمي في النكاح الفاسد، وفي المضاربة الفاسدة، ونحوها على أحد القولين‏.‏

فإن كان المقبوض به موجودا وأراد الرد رده، وإن كان فائتا رد مثله إذا أمكن‏.‏ فإذا تعذر رد العين أو المثل فلابد من رد عوض، مثل أن يكون المبيع ليس من ذوات الأمثال، بل من ذوات القيم، ومثل المنافع المستوفاة بالإجارة الفاسدة، ومثل عمل العامل في المشاركة الفاسدة‏:‏ من المساقاة والمضاربة ونحوها‏.‏ فمن أصحابنا من يوجب رد القيمة في هذه الصورة، كقول الشافعي، بناء على أن المستحق رد العين أو المنفعة، وقد تعذر عينه ومثله فينقل إلى القيمة، كما لو ضمنت بالإتلاف أو الغصب‏.‏

وطرد الشافعي هذا في المسمي الفاسد في النكاح، والمغصوب، فأوجب مهر المثل؛ بناء على أنه كان يجب رد البضع لفساد التسمية، فلما لم يمكن رده رد بدله، وهو مهر المثل، وخالفه بعض أصحابه، / والجمهور من أصحابنا وغيرهم، وسائر العلماء أوجبوا بدل المهر المسمي مثله أو قيمته؛ لا بدل البضع، وهو الصواب قطعا؛ لأن النكاح هنا لم يفسد، فلم يجب رد المستحق به وهو البضع، وإذا لم يجب رد البضع لم يجب رد بدله، بل الواجب هو إعطاء المسمي إن أمكن، وإلا فبدله، فكان بدل المسمي هو الواجب، وهو أقرب إلى ما تراضوا به من بدل البضع، وفي سائر العقود إذا فسدت نوجب رد العين أو بدلها‏.‏ وظاهر كلام أحمد أن الواجب في المشاركة ـ مثل المضاربة ونحوها ـ المسمي أيضا؛ كالنكاح الفاسد، على ظاهر المذهب‏.‏ وهذا القول أقوى‏.‏

بل الصواب أنه لا يجب في الفاسد قيمة العين، أو المنفعة مطلقا، وذلك؛ لأن العين لو أمكن ردها أو رد مثلها لكان ذلك هو الواجب؛ لأن العقد لما انتفي وجب إعادة كل حق إلى مستحقه،والمثل يقوم مقام العين‏.‏ أما إذا كان الحق قد فات مثل الوطء في النكاح الفاسد، والعمل في المؤاجرات والمضاربات، والغبن في المبيع، فالقيمة ليست مثلا له‏.‏

وإنما تجب في بعض المواضع؛ كالمتلف والمغصوب الذي تعذر مثله، للضرورة؛ إذ ليس هناك شيء يوجد أقرب إلى الحق من القيمة، فكان ذلك هو العدل الممكن، كما قلنا مثل ذلك في القصاص، / ودية الخطأ وأرش الجراح‏.‏ واعتبرنا القيمة بتقويم الناس؛ إذ ليس هناك متعاقدان تراضيا بشيء‏.‏ وأما هنا فقد تراضيا بأن يكون المسمي بدلا عن العين أو المنفعة، والناس يرضون لها ببدل آخر، فكان اعتبار تراضيهما أولي من اعتبار رضا الناس‏.‏

فإن قيل‏:‏ هما إنما تراضيا بهذا البدل في ضمن صحة العقد، ووجوب موجباته، وذلك منتف هنا‏؟‏ قيل‏:‏ والناس إنما يجعلون هذا قيمة في ضمن عقد صحيح له موجباته‏.‏ فلما تعذر العقد هنا قدرنا وجود عقد يعرف به البدل الواجب فيه، فتقدير عقدهما الذي عقداه أولي من تقدير ما لم يوجد بحال، ولا رضيا به، ولم يعقده غيرهما‏.‏ فإذا كان لابد من التقدير والتقريب، فما كان أشبه بالواقع كان أولي بالتقدير وأقرب إلى الصواب‏.‏

فتبين بهذا أن إيجاب مهر المثل في النكاح الفاسد، إنما هو شبيه لها بمن يتزوج من أمثالها نكاحا صحيحا لازما، فتحتاج فيه إلى شيئين‏:‏ إلى تقدير مثلها، وتقدير نكاح صحيح، فيه مسمي‏.‏ فقسناها على أمثالها، وقسنا فاسدها على صحيح أولئك، وهذا في غاية البعد، وإذا أوجبنا المسمي في الفاسد قسنا فاسدها بصحيحها، وهي إلى نفسها أقرب من غيرها اليها‏.‏ ثم عقدهما الفاسد وعقدهما الصحيح أقرب من عقدهما الفاسد إلى عقد غيرهما الصحيح‏.‏ وأما إذا كان وطئ بشبهة بلا نكاح، فهنا يوجب مهر مثلها‏.‏

/ وقال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه‏:‏

 فصل

قاعدة في المقبوض بعقد فاسد

وذلك أنه لا يخلو‏:‏ إما أن يكون العاقد يعتقد الفساد ويعلمه، أو لا يعتقد الفساد‏.‏

فالأول يكون بمنزلة الغاصب؛ حيث قبض ما يعلم أنه لا يملكه، لكنه لشبهة العقد، وكون القبض عن التراضي هل يملكه بالقبض أو لا يملكه‏؟‏ أو يفرق بين أن يتصرف فيه أو لا يتصرف‏؟‏ هذا فيه خلاف مشهور في الملك‏.‏ هل يحصل بالقبض في العقد الفاسد‏؟‏وأما إن كان العاقد يعتقد صحة العقد؛ مثل أهل الذمة فيما يتعاقدون بينهم من العقود المحرمة في دين الإسلام؛ مثل بيع الخمر، والربا، والخنزير؛ فإن هذه العقود إذا اتصل بها القبض قبل الإسلام والتحاكم الينا أمضيت لهم، ويملكون ما قبضوه بها بلا نزاع؛ لقوله تعالى‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏278‏]‏ ، فأمر بترك ما بقي‏.‏

وإن أسلموا أو تحاكموا قبل القبض فسخ العقد، ووجب رد المال إن كان باقيا، أو بدله إن كان فائتا‏.‏ والأصل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 278، 279‏]‏ ، أمر الله تعالى برد ما بقي من الربا في الذمم، ولم يأمر برد ما قبضوه قبل الإسلام، وجعل لهم مع ما قبضوه قبل الإسلام رؤوس الأموال‏.‏ فعلم أن المقبوض بهذا العقد قبل الإسلام يملكه صاحبه، أما إذا طرأ الإسلام وبينهما عقد ربا فينفسخ، وإذا انفسخ من حين الإسلام استحق صاحبه ما أعطاه من رأس المال، ولم يستحق الزيادة الربوية التي لم تقبض، ولم يجب عليه من رأس المال ما قبضه قبل الإسلام؛ لأنه ملكه بالقبض في العقد الذي اعتقد صحته، وذلك العقد أوجب ذلك القبض، فلو أوجبناه عليه لكنا قد أوجبنا عليه رده، وحاسبناه به من رأس المال الذي استحق المطالبة به، وذلك خلاف ما تقدم‏.‏

وهكذا كل عقد اعتقد المسلم صحته بتأويل من اجتهاد أو تقليد؛ مثل المعاملات الربوية التي يبيحها مجوزو الحيل، ومثل بيع النبيذ المتنازع فيه عند من يعتقد صحته، ومثل بيوع الغرر المنهي عنها عند من يجوز بعضها؛ فإن هذه العقود إذا حصل فيها التقابض مع اعتقاد الصحة / لم تنقض بعد ذلك؛ لا بحكم، ولا برجوع عن ذلك الاجتهاد‏.‏

وأما إذا تحاكم المتعاقدان إلى من يعلم بطلانها قبل التقابض، أو استفتياه إذا تبين لهما الخطأ، فرجع عن الرأي الأول، فما كان قد قبض بالاعتقاد الأول أمضي‏.‏ وإذا كان قد بقي في الذمة رأس المال، وزيادة ربوية، أسقطت الزيادة ورجع إلى رأس المال‏.‏ ولم يجب على القابض رد ما قبضه قبل ذلك بالاعتقاد الأول، كأهل الذمة وأولي؛ لأن ذلك الاعتقاد باطل قطعا‏.‏

 وقال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه‏:‏

فصل

إذا كان إيجاب المسمي أو مثله أقرب إلى التسوية في الفاسد الذي يتعذر رده، رد المقبوض أو مثله من إيجاب، مثل العوض المسمي في العقد على مثال هذا المضمون‏.‏

فنقول‏:‏ المثل من فاسد فسد مثله، فليس المؤجل مثل الحال، ولا أحد النوعين مثل الآخر، فلو أسلم اليه دراهم في شيء سلما، ولم / يتغير سعره، وقلنا‏:‏ هو سلم‏.‏ فإن رد اليه رأس ماله في الحال، أو مثله، فهذا هو الواجب‏.‏

وأما إذا أخره إلى حين حلول السلم، ثم أراد رد مثل رأس ماله، فليس هذا مثلا له‏.‏ فإذا أوجبنا المسلم فيه بقيمته وقت الإسلاف كان أقرب إلى العدل، فإنهما تراضيا أن يأخذ بهذه الدراهم من المسلم فيه، لا من غيره، لكن لم يتفقا على القدر، فردهما إلى القيمة العادلة هو الواجب بالقياس؛ فإن قبض الثمن قبل قبض المثمن‏.‏ ولو اشتري سلعة لم يقطع فيها، وقلنا هو بيع فاسد، فإذا تعذر رد العين ومثلها ردت القيمة بالسعر وقت القبض، فكما أوجبنا هنا قيمة المقبوض من العوض، نوجب هناك قيمة المقبوض من الدراهم‏.‏

ونظيرها من كل وجه‏:‏ أن يكون المبيع مكيلا، أو موزونا، لم يقطع ثمنه، لكنه مؤجل إلى حول، فحين يحل الأجل إن رد حنطة مثلا لم يكن مثلا لتلك المقبوضة؛ لاختلاف القيمة، فإعطاء قيمة المقبوض وقت قبض السلعة مؤجلا إلى حين قبض الثمن أشبه بالعدل‏.‏ فهذا في الثمن والمثمن سواء‏.‏

والأصل فيه أن كل ما كان أقرب إلى ما تعاقدا عليه، وتراضيا به؛ كان أولي بالاستحقاق مما لم يتعاقدا عليه ولم يتراضيا به، وأن / المضمون بالغصب والإتلاف إذا لم يكن مثليا فإنه يقدر بالقيمة لا بالعقود، فتقدير المضمون بذلك العقد أولي من تقديره بالمضمون بعقد آخر، لكن هذه المسألة ـ مسألة الحلول والتأجيل ـ مبنية على أصل آخر، وهو أن اختلاف الأسعار يؤثر في التماثل، وهذا مذكور في موضعه‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل عاقد رجلا بثغر الإسكندرية على غلة ذكر أنها مودعة في ناحية ببيروت، وأعطاه الثمن، وأرسل وكيله ليسلم ذلك للمشتري، فلم يجد الغلة، بل وجدها تحت الحوطة، كل ذلك بعد أن أشهد المشتري على نفسه أنه تسلم الغلة المذكورة، فهل يجوز لهذا البائع تأخير ما قبضه من الثمن‏؟‏ وهل له في ذلك شبهة، ويعطي البائع بتأخير الثمن عمن سلمه بعد المطالبة أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، إذا لم يجد المبيع الغائب، أو وجده ولم يتمكن من قبضه، فله فسخ البيع إن كانت العين مغصوبة‏.‏ وإن تلفت انفسخ البيع ووجب على البائع أن يرد عليه الثمن إذا طلبه المشتري، ولا ينفعه إشهاد المشتري عليه بالقبض، إذا كان قد أشهد / قبل القبض، وإن قامت عليه بينة بالإقرار، وكان الإقرار صحيحا، فله تحليف البائع أن باطن الإقرار كظاهره في أصح قولي العلماء‏.‏

وأما إذا علم كذب الإقرار، بأن يكون قد أقر بالقبض قبل التمكن منه، لم يصح هذا الإقرار كله ـ إذا صح بيع الغائب، بأن يبيعه بالصفة على مذهب مالك، وأحمد في المشهور‏.‏

وأما من أبطل بيعه مطلقا كالشافعي، وأحمد في رواية، فالبيع باطل من أصله، وأبوحنيفة يصححه مطلقا، وأحمد في رواية، لكن له الخيار عند الرؤية بكل حال، وبكل حال فالأئمة متفقون على أن على البائع دفع الثمن إذا طلبه المشتري والحالة هذه‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عمن باع بيعًا وجحد البيع، وأشهد المشتري على نفسه بالفسخ، فما الحكم في ذلك‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا جحد البيع وفسخه المشتري كذلك، لم يكن للبائع إلزام المشتري ثانيا بالقبض‏.‏ والله أعلم‏.‏

/

 وسئل عن رجل اشتري ملكا بثمن معين، ودفع الثمن بمحضر شهود كتاب التبايع، وثبت الكتاب، وحكم به حكام المسلمين الأربعة، ثم استحق الملك المشتري مستحق غير البائع، وأثبت استحقاقه بذلك الشرع، ورفع يد المشتري عما اشتراه منه، والرجل يومئذ غائب فوق مسافة القصر، وله أملاك حاضرة وأموال، فهل إذا طلب الرجل المذكور من الحاكم الذي ببلد المشتري الذي حكم له على الغائب بنظير ما قبض الغائب من الرجل المشتري من ثمن المبيع يجيبه إلى ذلك، والحالة هذه‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، نعم إذا ظهر المبيع مستحقا، فللمشتري أن يرجع بالثمن على من قبضه منه، أو ببدله‏.‏ فإذا كان القابض منه غائبا حكم عليه إذا قامت الحجة، وسلم إلى المحكوم له حقه من مال الغائب مع بقائه على حجته‏.‏ والله أعلم‏.‏